حمامتا الغار بين الحقيقة والخيال
تعلمنا في الصغر أن المشركين حين وصلوا إلى غار ثور وهم يقتفون آثار الرسول عليه السلام وصاحبه رضي الله، إذا بالعنكبوت قد نسجت على باب الغار، وإذا حمامتان قد باضتا ورقدتا على البيض، مما أقنع قريشًا بأنه لا أحد في الغار.
ولعل من نافلة القول أن نكرر ما يذكره أهل الحديث من أن رواية الحمامتين لا تصح. ولكن اللافت أننا لا نتخيل الغار إلا والحمامتان على بابه، ولا يكاد فنان يخط بريشته رسمًا للهجرة إلا وتكون الحمامتان والعنكبوت العنصر الأساسي في لوحته.
والأعجب من ذلك أن كثيرًا من الوعاظ وبعض العلماء حين يُسألون عن صحة رواية الحمامتين لا يرون بأسًا في إثباتها على الرغم مما أسلفنا من حالها.
والذي أراه أنَّ الأمر بالنسبة للكثيرين أكبر من مجرد المحاكمة العقلية للنصوص، ذلك أن الموضوع يتعلق برموز عميقة في النفس الإنسانية، إذ الحمامة رمز للسلام، وكثيرًا ما نسمع تعبير "حمامة السلام"، وبالتالي فلعل منشأ الرواية أن أحد القصاص، وهو يروي قصة الهجرة ومحاصرة المشركين للغار ثم عودتهم خائبين وبالتالي نجاة الرسول الكريم وصاحبه، يعلق بالقول: "وحطت حمامة السلام على الغار"، في صياغة مجازيه تؤكد ختام تلك الأحداث المقلقة، ولا يلبث الخيال المجازي والتعبير البلاغي أن يتحولا في أذهان الكثيرين، وعلى رأسهم القُصّاص، إلى أحداث وحقائق.
ولا ننسى أن هؤلاء قد أكثروا من الوضع في الحديث والسير وقصص الأنبياء، بحسن نية أو بسوئها.
ومثل ذلك ما نجده في الروايات الإسرائيلية من أن نوحًا عليه السلام، حين استوت سفينته على الجوديّ، بعث الغراب ليأتيه بالخبر فوقع على الجيف وأبطأ عليه، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، فعرف نوح عليه السلام أن الماء جفّ وأن بإمكانه الهبوط! هذه الرواية لم تأت في القرآن، ولا ورد بشأنها حديث صحيح، ومع ذلك ذكرها غير واحد من المفسرين، ويكررها الكثير من الوعاظ والخطباء.
والسبب، فيما يبدو، هو أيضًا أن الحمامة وغصن الزيتون رمزان للسلام والسلامة. ولذلك أوردهما القُصّاص وتابعهم المفسرون والوعاظ، وطرب لهما جمهور القراء والمستمعون.
أما الغراب الذي يتشاءم الناس من شكله وصوته، ويعتبرونه رمزًا للخراب، فإن الخيال الشعبي لا يتصور أن يعود إلى نوح عليه السلام بأخبار السلامة؛ ولذلك لا بد أن يبطئ عليه وينشغل عنه بجيفة.
وفي القرآن الكريم نلاحظ أن الله تعالى الذي لا يعتريه من الضعف ما يعتري البشر، يجعل من الغراب أول معلم لبني آدم، وكأنه يدعوهم إلى عدم إغلاق عيونهم وآذانهم إذا رأوا ما يكرهون، وإنما إلى أخذ الدروس والعبر من كل شيء، مهما كان صغيرًا أو حقيرًا؛ ولذلك لم يستحي الله تعالى أن يضرب الأمثال بالبعوض والذباب.
يتضح مما سبق كيف أن النفس البشرية تُسقط رموزها ومشاعرها وأحلامها على الأحداث والقصص، وحتى النصوص والأخبار الدينية.
ولعلنا يمكن أن نستنتج أن نسبة كبيرة مما اعترى الكتب السابقة من الزيادة والتحريف هو من هذه الشاكلة، وأن من حكمة الله تعالى أن تعهد بحفظ الرسالة الخاتمة، ولم يستحفظ عليها أحدًا من البشر.
من فضلك شارك هذا الموضوع اذا اعجبك
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق